النموذج هو أداة تحليلية تجمع بين الفكر الذاتي والموضوعي يمكن اختبارها وتطويرها ووضعها في النطاق التنفيذي (عبد الوهاب المسيري) أي أن النموذج لا يجب أن يغلب عليه الرأي الشخصي لكاتبه وأيضا يجب أن يضع في عين الاعتبار المبادئ الموضوعية المهنية وأفضل الممارسات المتعارف عليها للتخصص الذي تتم نمذجته.
الرأي الشخصي في النموذج التشغيلي يتم فيه وضع اﻷولويات التي يحتاجها السياق الذاتي وليس السياق العام ولهذا فمن الضروري أن يكون هناك نموذج تشغيلي مميز لكل حالة أعمال ويستخدم في قراءة الواقع والسياق الخاص بها.
وبكلمات أكثر اختصارا، النموذج التشغيلي الهندسي هو الإجراءات وآلية التفكير والإطار العام الذي يقوم المهندس بتقديم خدماته من خلاله.
وﻷن الحقائق الصحيحة ١٠٠% غير موجودة أبدا ولا يمكن الوصول إليها، فإنه يمكن العمل على تطوير النموذج الذي يتم بناؤه عبر التطبيق الحقيقي على أرض الواقع، لهذا، لا يجب أن يكون هناك إغراق في بناء النموذج، بل يجب بذل جهد في بنائه والجهد اﻷكبر في تطبيقه وتجربته وتشغيله ومن ثم تطويره.
وللوصول إلى الوضوح التام مع الذات ومع الغير، يجب إيضاح أن النموذج التشغيلي هو نموذج ذاتي وليس نموذج عام، الغاية منه هو قراءة وتأطير السياق الذاتي وليس السياق العام
وهذا المبدأ قد لا يكون قابلا للتطبيق في العلوم اﻹنسانية أو المهنية، لكنه ينطبق بشكل تام وواضح جدا في مبادئ اﻷعمال بشتى نواحيها، ولكن هذا الأمر يكون أكثر وضوحا في العمل الهندسي الذي يتميز بالديناميكية الحساسة والعمق في الدخول في التفاصيل لأي عمل هندسي، وهو ليس كالطبي الذي يكون له نموذج ثابت في الغالب وليس كالتعليمي الثابت ثبوت الجبال (في هذا العصر).
يجب أن يكون نموذج العمل التشغيلي وسيلة للإجابة عن مجموعة من (اﻷسئلة النهائية) وهي الغايات اﻷسمى التي يسعى المهندس إلى تحقيقها، أي أن النموذج يجب أن يكون وسيلة أو أداة فعالة لتحقيق هذه الغايات وإيجاد الأجوبة عن اﻷسئلة النهائية المطروحة.
فالهجرة على سبيل المثال عمل فيه الكثير من التفاصيل، وكل من هاجر كان له النموذج الخاص به، فعمر رضي الله عنه هاجر جهارا نهارا متحديا، هذا كان نموذجه والسياق الذي يعيش هو به، أما صهيب بن سنان بن مالك (الرومي) فقد دفع كل ماله للمشركين في مكة لكي يهاجر بنموذج عمل فريد استحق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ربح البيع أبا يحيى) وعلى الرغم من اختلاف النماذج إلا أن الغاية النهائية واضحة على الرغم من تعدد الغايات وأوضح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الغاية الصحيحة في قوله (فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) وهذا ينطبق أيضا على الوضع الحالي في قطاع الأعمال.
واﻷسئلة النهائية ليس من الضروري أن يكون لها إجابات نهائية تماما، فالنموذج التشغيلي يسعى سعيا حثيثا للوصول إلى الغاية ولكنه يبقى يتطور ويتحسن على أيدي من يطبقه باستمرار وذلك ضمن السياق الخاص بهم وهنا يظهر الإبداع والابتكار في النموذج، فكلما كان النموذج قادرا على حل المزيد من المشاكل والإجابة على أسئلة نهائية أعمق وأصعب كان الابتكار أكثر وأعقد.
ولكن هناك أسئلة نهائية لها إجاباتها التي قدمها لنا الله تعالى في القرآن الكريم، فقوله تعالى ((وما خلقت الجن واﻹنس إلا ليعبدون)) هو إجابة عن السؤال النهائي: لماذا نحن مخلوقون؟ وفي هذا السياق الحياتي يقدم لنا القرآن الكثير من التوجيهات التي تساعدنا كثيرا في الحياة العملية والهندسية أيضا.
إذن فارتباط النموذج التشغيلي بالغايات للإجابة عن اﻷسئلة النهائية أمر في غاية اﻷهمية والحساسية وهو ما يوجب على المهندس ان يسير على مسار واضح محدد راسخ لخدمة عملائه وحل مشاكلهم وتقديم الإجابات على أسئلتهم النهائية مهما كثرت التحديات تجاهها.
كما أن بناء النموذج التشغيلي يدخل فيه منظومات متعددة كالمنظومة الدينية والقانونية واﻷخلاقية والاجتماعية والتشريعية وغيرها وهذا ما يجعله يحتاج إلى الكثير من التعديل والتطوير على مدار الزمن والتطبيق المتكرر، كما أن تلك المنظومات اﻷخرى المؤثرة قد تصل إلى أنها محددات تقيد أو تحد النموذج الشامل وبالتالي، مرونة النموذج وتطويره المستمر أساس لنجاحه.
تتضح هذه اﻷمور أكثر عند المنظمات الربحية التي تكون غايتها المال فقط وسؤالها النهائي اﻷوحد هو (كيف أجلب المزيد من المال وأعاظم أرباحي) إضافة إلى حل لمشاكل العملاء ولكن تلك المشاكل تصبح أكثر بديهية وغير صعبة التحقيق، فتظل المنظمة في سعي حثيث لجلب المزيد من المال والبحث عن وسائل أكثر لتحصيله من العملاء. ولهذا فإن المنظومة الربحية الجشعة لا تستطيع التعامل مع المنظومات اﻷخلاقية أبدا وتعتبرها عائقا يجب تجاوزه، لهذا تجد شركات عظمى لصناعة الهواتف الجوالة وصناعة الملابس مثلا تقوم على استغلال الفقراء والضعفاء في البلاد الفقيرة والدول الدكتاتورية لتصنيع منتجاتهم بأرخص التكاليف ليقوموا هم ببيعها بأعلى الأسعار بعد ذلك، ولا يجد نموذجهم التشغيلي أي غضاضة في ذلك ﻷنهم يرون ذلك سعيا لتحقيق الغاية وﻷنهم تجاوزوا المنظومة القانونية في جغرافية بلادهم، ولا مانع لديهم في ذلك لتحقيق الغاية.
كما أن عمق المستوى التحليلي هو ما يحدد مستوى تعقيد النموذج التشغيلي للمنظمة، فكلما كانت أعمال المنظمة روتينية وإنتاجية أكثر كلما كان النموذج التشغيلي أدق وأصعب في التعديل وأقل في اﻹبداع والابتكار، أما النموذج التشغيلي الشمولي فيكون ﻷنماط اﻷعمال التي تكون ديناميكية ولا تكون فيها الروتينية كثيرة جدا وبالتالي تكون فيها نافذة اﻹبداع والابتكار أكبر وأوسع وفي بعض الحالات أعمق.
كما أنه من الضرورة بمكان أن يكون لدى المهندسين والعاملين بشكل عام الوضوح التام بالقيم المرجعية النهائية التي لديهم والتي لا يمكن أن يحيدوا عنها، منظومة القيم هذه قد تكون مشتركة في حال التجمعات والنقابات ولكنها أيضا يجب أن تكون محررة لكل عمل على حدة مهما كان صغيرا…
إن التبعية الحالية للمنظومة الغربية جعلت قطاع اﻷعمال غير قادر على بناء النماذج الخاصة به، بل وفر المهندسون على أنفسهم أن يكون لديهم نماذج عمل خاصة بهم، وأصبح القادم من الغرب هو النموذج اﻷوحد الصحيح ١٠٠% وهذا نوع من الاستعباد الذي يجب أن يرفض بأسرع ما يمكن من التجمعات العلمية والمجتمعات المثقفة التي يجب أن تبدأ ببناء نماذجها التشغيلية التي يمكن أن تتحول لاحقا إلى أفضل ممارسات وأطر عمل ومعايير عالمية.
إن استصغار الذات ورفض بناء النموذج ومنظومة القيم يضع المهندس المثقف والمؤهل في خانة ردود اﻷفعال والضعف اﻷقصى حتى وإن كان متمتعا بعائد قوي من المال ورصيد كبير في البنك.
إن العمل دون نموذج تشغيلي يشكل مشكلة حقيقية، وهو دليل على أن المهندس يقوم بكل شيء، وهذا مؤشر على أنه يعمل مهما أتاه من أعمال وبالتالي يكون السؤال النهائي الذي يجيب عليه (كيف احصل على المزيد من المال) بغض النظر عن الإتقان أو الجودة في العمل، فيصبح هذا هو سؤاله الذي يسعى إلى حله حتى وإن لم يدرك، ﻷن نموذجه غائب وهذا يسيء إلى المجتمع العلمي والعمل الهندسي والسمعة بشكل عام.
إن أردنا أن نسقط كل ما سبق على المشاريع الهندسية جميعا، فإن المهندسين قادرين على تقديم مشاريع رائعة بنماذج فريدة مبتكرة وليس مجرد مشاريع تشغيلية.
إن تمكن المهندس من طرح السؤال النهائي لكل مشروع يقوم به والتفكير ما وراء الاحتياج الظاهر للعملاء، فسيكون بإمكانه تقديم ما يغير به حياة الناس والانطلاق بالعمل الهندسي إلى آفاق لم يكن ليفكر بها.
فما قامت به المهندسة المعمارية الراحلة زها حديد في مخيمات اللاجئين التي قام الهلال اﻷحمر القطري بتمويلها كان رائعا فعلا حيث قدمت مبان قابلة للفك والتركيب واستخدمت أقمشة تحمي من العوامل الجوية وتسمح بدخول الضوء.
مثال آخر في نفس القطاع عن مدرسة في بوركينا فاسو حيث قام المهندس فرانسيس كير ببناء مدرسة للفقراء في أحد القرى في البلاد حصلت على عدة جوائز معمارية حيث أنه تمكن من تقديم أفضل بيئة تعليمية تحقق معايير تعليم عالمية بأقل التكاليف وبأفضل تصميم.
بقلم المهندس: جهاد بوابيجي